الجزيرة نت

أيقونة الثورتين الجزائرية والفلسطينية.. نضالات محمد بودية برواية “قلب في أقصى اليسار” | ثقافة


تجسد رواية (قلب في أقصى اليسار) الصادرة مؤخرا (2024) عن دار الأمير في الجزائر للروائي الدكتور سليم عبادو مسيرة الشهيد والمناضل محمد بودية المثقف والمسرحي الجزائري (1932-1973) الذي يمثل أيقونة من أيقونات المقاومة في سياق الثورة الفلسطينية وقبلها في ثورة التحرير الجزائرية التي تمرن في إطارها ثوريا ومسرحيا قبل استقلال الجزائر وبعده، ثم انتقل في ستينيات القرن الـ20 إلى صفوف الحركة الثورية الفلسطينية.

محمد بودية شخصية فذة وبطل استثنائي

وبحسب مؤلف الرواية الدكتور سليم عبادو -في لقاء خاص مع الجزيرة نت لاستكمال هذا المقال- يعود الباعث على كتابة الرواية “رغبة من المؤلف في رد جزء بسيط مما ندين به جميعا لشخصية فذة مثل الشهيد محمد بودية، الذي حارب في (الثورة الجزائرية وقُتِل في الثورة الفلسطينية)، رجلٌ لا يعترف بالحدود ولا بالأعراق إذا ما تعلق الأمر بحرية الإنسان وحقوقه”.

محمد بودية (1932 – 1973) مقاتل ثوري ومسرحي وصحفي جزائري انخرط في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (الصحافة الجزائرية)

ويمكن القول إن بودية بطل في الواقع الفعلي وبطل في الرواية بمعنى أنه شخصيتها الرئيسة التي تصنع الأحداث ويتجمع نسيج الرواية حولها، ولا شك في أن البطل الروائي حقيقيا كان أو متخيلا يستوقف القارئ ويؤثر فيه، ويؤيد ذلك أن مؤلف الرواية يقول لنا عندما سألناه عن البطل في الرواية وعن دلالة اختياره وتركيز صورته: “البطل في رواياتي هو (ما يجب أن نكون عليه نحن)، هو (أنا وأنتَ ومَن يقرأ الرواية ويحكيها)، بعد قرن من الزمن مالت فيه الكفة فيما يخص القوة المادية للغرب، أصبحت الهيمنة واضحة والرغبة في إرضاخ الآخر “رياضة عالمية يومية” فاستُعمِلت كل الأدوات من أدب وإعلام وسينما من أجل التقليل من شأنِنا، ومحو تاريخنا وجغرافيتنا وحضارتنا وخاصة ثقافتنا، أصبح لِزاما علينا أن نكتب عن أنفسنا وعن أبطالنا لنُعيد الثقة لهذه الأجيال في تاريخ أمتها وندعم هويتها ضد التجريف اليومي الذي تتعرض له”.

ومعنى هذا أن الرواية لا تكتب للتوثيق والتأريخ فحسب وإنما تكتب لنقل الرسالة من جيل إلى جيل، في سياق معركة طويلة هي معركة الهوية والتحرر ورفض التبعية والاحتلال والهيمنة، وفي إطار معركة طويلة متشعبة من هذا النوع تشترك قوى كثيرة في المجابهة، ولا شك في أن الكتابة المقاوِمة بأنواعها المختلفة هي بعض ما نحتاج إليه، وندعم وجوده وتجدده، عوضا عن ملء الساحة الأدبية بأعمال عبثية أو ذاتية منغلقة تفتقر إلى المعنى المناصر لحقنا في الاستقلال والوجود الحر.

حادثة الاغتيال: الفصل الأخير في حياة البطل

تبدأ رواية “قلب في أقصى اليسار” من الفصل الأخير في حياة بطلها وشخصيتها الرئيسية (محمد بودية)، أو (أبو ضياء) بكنيته الفلسطينية، أي أنها تبدأ من ذروة النهاية التي شهدت استشهاده في باريس في 28 يونيو/حزيران 1973 ثم تعود إلى الوراء لمطالعة حياة هذا الشاب (استشهد في سن الـ41) وإعادة سرد مفاصلها وتفاصيلها المثيرة لتفسر لنا هذه النهاية الدرامية التي انتهى إليها من خلال تفجير فريق من “الموساد” لسيارة “الرينو 16” التي يستقلها عبر تفخيخها بالمتفجرات في شارع “سان برنار” بباريس. ويجسد هذا الفصل وقائع المراقبة الطويلة التي سبقت حادثة التفجير، كما يجسد ما اشتهر به بودية من فنون التنكر التي وظف فيها مهاراته المسرحية في نشاطه الثوري المقاوم، حتى أطلق عليه الموساد لقب “الرجل ذي الألف وجه” في إشارة إلى ذكائه وحذره الشديد وتنكره وتغييره لهيئته، وهو ما صعّب التعرف عليه لزمن طويل.

بودية في الثورة الجزائرية قبل الاستقلال

يعود بنا الروائي سليم عبادو في الفصل الثاني الذي عنونه بـ”الثورة: حبس (فران) قرب باريس” إلى مرحلة مبكرة في حياة محمد بودية تعود إلى النصف الثاني من خمسينيات القرن الـ20 في السنين الأخيرة قبيل استقلال الجزائر ورحيل الاستعمار الفرنسي نهائيا عن البلاد، حيث قبض عليه وأودع في سجن (فران) بعد تفجيرات خزانات النفط في “موربيان” قرب مرسيليا في 25 أغسطس/آب 1958 التي خطط لها ونفذها بمهارة فائقة. يصور الفصل هذه المرحلة المهمة التي تقدم صورة من صور ثورة التحرير الجزائرية التي أفضت إلى استقلال الجزائر في الثاني من يوليو/تموز عام 1962. كما يصور من جهة ثانية تجربة السجن في حياة بودية وحياة النضال والمقاومة بشكل عام، ويضيء علاقات بودية بغيره من المناضلين عربا كانوا أو فرنسيين وأجانب مؤيدين للثورة الجزائرية، وهذه الفئة كان لبودية صلة وثقى بها، بل إنه ساهم في تكوينها وتوسيع قاعدتها انطلاقا من عالمية الصراع مع قوى الاستعمار وانطلاقا من أن تقويض الظلم ورد العدوان واجب أممي في إطار من الإيمان بحق الشعوب في التحرر ونيل الاستقلال.

يقدم فصل السجن إطارا لحوادث مهمة تشمل انتقال بودية إلى سجن فران، ووضعه في زنزانة مع إيتيان أستاذ الفلسفة الفرنسي، المتعاطف مع ثورة الجزائر، ثم ترتيب لقاء مع “بشير” أحد قيادات التنظيم داخل السجن. ويتسع الفصل لتقديم علاقات السجناء وأحاديثهم وتخطيطهم لمزيد من الترتيبات الثورية وهم داخل السجن، أي أن السجن مرحلة من مراحل المقاومة لها أصولها ونشاطها في حياة المناضلين. ويسمح الفصل من خلال الحوارات المكثفة بتقديم لمحات من حياة بودية قبل هذه المرحلة، وكيف اتجه إلى الاهتمام بالمسرح الذي يعود إليه فيؤلف ويخرج مسرحيات يقوم السجناء بتمثيلها في صورة نشاط ثقافي لا يتخلى عن فكرة المقاومة ولكن بصورة فنية ثقافية لافتة.

إلى جانب ذلك يوثق هذا الفصل البعد الأممي والعالمي للثورة الجزائرية من خلال وجود فئة من المثقفين والمناضلين الفرنسيين ممن آمنوا بالثورة الجزائرية وانضموا إليها ضد فرنسا نفسها، وسجن بعضهم مع بودية في سجن (فران) من مثل رفيقه في الزنزانة (إيتيان) أستاذ الفلسفة، وشخصيات أخرى ممن حرصت الرواية على وجودهم، ذلك أنهم “مناضلون أمميون ضد الاستعمار”. ينتهي الفصل بنقل بودية إلى سجن آخر وتنظيم عملية الفرار وتحقيق الحرية من جديد.

 ما بعد الثورة: بودية في جزائر الاستقلال

يمثل الفصل الثالث من الرواية مرحلة أخرى من حياة بودية ومسيرته في مرحلة تأسيس الدولة الجزائرية بعد الاستقلال، وننتقل معه إلى مرحلة ما بعد الثورة في الجزائر العاصمة، وتمتد هذه المرحلة من عام 1962 وحتى انقلاب هواري بومدين 1965م. ويرسم هذا الفصل من الرواية بعض معالم حياة الشهيد بودية في هذه المرحلة المهمة من مراحل حياة الجزائر الحديثة، وتكشف الرواية قربه من الرئيس الأسبق أحمد بن بلا، أول رئيس جزائري بعد الاستقلال، ويوثق الفصل -بطريقة سردية تجمع بين أمانة التوثيق والتسريد الفني الملائم للجنس الروائي- وقائع بارزة في حياة شخصية الرواية، مثل: دوره في تأسيس المسرح الوطني، مشاركته في بناء الهوية والدفاع عن مكانة اللغة العربية وضرورات التعريب بعد مرحلة طويلة من “الفرنسة”، إلى جانب الاهتمام بموقع الثقافة ومكانتها وأدوارها في جزائر ما بعد الاستقلال نظرا لصلتها بمسألة الهوية والاستقلال ورفض التبعية، إلى جانب تعبير الرواية عن الصعوبات التي تواجه بناء الدولة، فالثوريون عندما يحكمون ويتحولون إلى “ساسة” ربما يتبدلون أو تتبدل أدوارهم، وتجسد الرواية اتصال بودية بشخصيات عالمية زارت الجزائر في هذه المرحلة من مثل زيارة المناضل العالمي “تشي غيفارا” للجزائر ولقاء بودية به ومرافقته أثناء زيارته للجزائر، ولقاؤه المفكرَ الفرنسي “جان بول سارتر” الذي احتفظ بمكانة مرموقة بسبب موقفه الناقد للاستعمار، وتأييده المبكر لاستقلال الجزائر، وينتهي الفصل برسم صورة مبكرة لاتصال بودية بقادة الثورة الفلسطينية التي بدأت تنظم صفوفها منتصف ستينيات القرن الـ20، من مثل لقائه مع “أبو جهاد-خليل الوزير”، وتعرفه إلى “محمود الهمشري” الذي بدأ نشاطه معلما في الكويت والجزائر ثم أصبح ممثل فتح في باريس، وانتهى شهيدا قبل شهور من استشهاد بودية نفسه، ضمن مسلسل تتبع الموساد الإسرائيلي للشخصيات الفلسطينية والعربية المؤثرة في فرنسا وفي أوروبا. وتركز الرواية على الصورة “العروبية” والقومية التي طمح إليها أحمد بن بللا، لكن هذه المرحلة لم تلبث أن انتهت بانقلاب هواري بومدين (في يونيو/حزيران 1965) وخروج أحمد بن بللا ومعه بودية وغيره من رفاقه ومناصريه، وتشير الرواية إلى رفض بودية لهذا الانقلاب أو التغيير وتشكيل تكتل معارض للانقلاب وتعيين بودية ناطقا إعلاميا له، وهو ما وجه الأنظار إليه وملاحقته، فتسلل بودية وصولا إلى فرنسا من جديد لتبدأ مرحلة أخرى من مراحل نضاله؛ تلك المرحلة التي ختمها بالاستشهاد.

محمد بودية في إطار الثورة الفلسطينية

يرجح أن لقاء محمد بودية بوديع حداد (1927-1978) أحد أبرز زعماء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كان نقطة فاصلة في حياته وفي انضمامه إلى الثورة الفلسطينية؛ إذ انضم لإطارات الجبهة، وإلى خط وديع حداد المتصل بالعمليات الخارجية خاصة، فغدا “بودية” أحد أبرز زعماء هذا الخط الثوري في فرنسا وأوروبا بشكل أوسع، إلى جانب علاقاته المتشعبة بقادة منظمة أيلول الأسود التي تعاونت مع خط وديع حداد ونفذت بعض العمليات المشتركة. كما أن بودية هو أول من التقى “كارلوس” الثائر الفنزويلي المعروف الذي يقضي هذه الأيام أحكام سجنه في باريس، وربما يتذكر في مثل لمح البصر الشاب الجزائري الذي التقاه في موسكو وضمه إلى صفوف الثورة وهيأ له اللقاء بوديع حداد، لتبدأ فصول أخرى من ثورة أممية مؤيدة لفلسطين تقاتل العدو الصهيوني في كل الجبهات. وإذا كان كثير من تفاصيل هذه العمليات التي مثلت مرحلة من مراحل المواجهة في ستينيات القرن الـ20 ما زالت شبه مجهولة نظرا لطابعها السري آنذاك؛ فإن ما ظهر من مذكرات ومؤلفات سياسية وتاريخية وإستراتيجية في السنين الأخيرة مما أصدره باحثون عرب أو إسرائيليون؛ يمكن أن تقدم مادة مغرية للكتابة الأدبية قصصيا وروائيا تعيد تمثيل تلك المرحلة وتثبت شخصياتها الرئيسية، لاستخلاص معاني المرحلة وربما الإفادة منها بصورة جديدة ضمن صراع لم ينته بعد.

سيرة غيرية بقالب روائي

وهذا بعض ما أقدم عليه الدكتور سليم عبادو في هذه الرواية الماتعة المترابطة التي يمكن تصنيفها ضمن صنف “رواية السيرة الغيرية”، وهو صنف معروف من أصناف الرواية الحديثة، يسمح بالجدل بين التاريخ والمتخيل، عبر ما ينشأ من علاقات متوترة بين جنسين مختلفين من ناحية نظرتهما للوقائع التاريخية، ونعني السيرة بطابعها الذي يدين للحقيقة وللتاريخ الفعلي، والرواية ذات الطابع المتخيل في طبيعتها الأجناسية الأصلية. واختيار الأسلوب الروائي يبدو خيارا مثمرا في هذا الاتجاه ذلك أن “الرواية التاريخية هي بمثابة تلوين للتاريخ” وفق قول المؤلف، الذي يرى أيضا أن التاريخ في الأصل “مادة جافة وثقيلة قد لا تستهوي القارئ، والرواية هي الفن الذي يُعيد لهذه المادة بريقها وجذبها بعد أن يُدخِل عليها الجانِب الجمالي والبُعد الإنساني، بالمُتخيل الجميل والمُشوق، ويسد الثغرات التي تركتها الشهادات التاريخية والأسئلة التي بقِيت صامدة بدون أجوبة، بعيدا عن التقديس والتشويه والأيديولوجية الضيقة”.

تصور الرواية نشاط محمد بودية في باريس وأوروبا ومحاولته بداية الأمر تفعيل شبكات دعم الثورة الجزائرية ممن كان له بهم صلة قبل الاستقلال، ولكنه يشعر بالإحباط وعدم النجاح الكافي في ذلك، وهذا أمر مفهوم فمعارضة سياسة الرئيس الجديد آنذاك (هواري بومدين) حتى لو جاء بانقلاب لا يثير حماسة وجاذبية مثلما كانت جاذبية الثورة الجزائرية وحركة التحرير. أمام هذا الوضع يتجه الرجل بطاقته النضالية كلها لتكوين صلات نضالية مع أصحاب القضايا العادلة في فلسطين وأميركا اللاتينية وأفريقيا، فيدخل في مرحلة من النضال العالمي تتعدى الجزائر التي دخلت في إطار قضايا الدولة وإشكالاتها وتجاوزت مرحلة الثورة والتحرير، وكأنما الرجل منذور للثورة وحدها، وغدا من رأيه أن الإمبريالية وقوى الاستعمار واحدة متشابهة في كل مكان وفق رؤية النضال العالمي.

وإلى جانب ذلك جدد اهتماماته المسرحية وشغل إدارة مسرح غرب باريس، ومن خلال العمل في المسرح كوّن علاقات وطوّر مهارات كانت تفاجئ خصومه وملاحقيه، كما شارك بالدعم والإسناد لمعظم عمليات الثورة التي شهدتها أوروبا في هذه المرحلة ونظمتها قوى فلسطينية وبوجه خاص عمليات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي أدارها وديع حداد. وابتداء من لقاء بودية بوديع حداد في هافانا بدأت مرحلة مؤثرة في حياة بودية جددت روحه الثائرة، ودفعت به إلى معترك الأحداث من جديد، لتنتقل خبرات الثورة الجزائرية عبر محمد بودية إلى الثورة الفلسطينية في إطار جغرافي عالمي هو أوروبا بأسرها، وهذه لحظة مهمة في لقاء الخبرات الثورية، فتم العمل المشترك لبناء شبكة عالمية لضرب مصالح العدو في كل مكان يمكن الوصول إليه. وابتداء من هنا تغدو مشاركة بودية ميدانية وعملية في الثورة حيث وظف معرفته وخبرته الأوروبية والنضالية لصالح الثورة الفلسطينية. وهذا النشاط وما نجح فيه بودية خلال سنوات قليلة في تجنيد المؤيدين وفي تنفيذ العمليات ودعمها هو ما لفت انتباه فريق الموساد الذي أسس فرقة اغتيال خاصة لمواجهة بودية ورفاقه في العواصم والمدن الأوروبية، أي أن ميدان الصراع اتسع ولم يعد يقتصر على عمليات منظمة داخل الأرض المحتلة وحدها.

وتقدم الرواية إذن المراحل المفصلية في حياة هذا الفنان المسرحي والمثقف العضوي والحركي الذي جمع بين الإيمان بالفكرة الثورية وتنفيذها الفعلي في صورة آسرة من صور الإخلاص والوفاء لما يؤمن به من حتمية انتصار الحق واندحار الاستعمار والاحتلال في أي زمان ومكان، وانتهى شهيدا باسلا في سبيل النهوض بما آمن به في شارع من شوارع العاصمة الفرنسية باريس على أيدي فريق اغتيال مجرم راقبه طويلا ولقي ما لقي من صعوبات في سبيل الوصول إليه.

اقتباسات من كتابات (بودية) الأدبية

ومن الجوانب المهمة في هذه الرواية تلك الاقتباسات التي اختارتها ضمن نسيجها السردي من كتابات محمد بودية وآثاره الأدبية وترجمتها بلغة أدبية راقية، وتهيئة السياق الملائم لتوزيعها داخل نص الرواية لتكون حقا رواية قريبة الشبه بالشخصية المحورية لها، هذه الفقرات الكتابية المقتبسة من كتابات بودية تقرب أن تكون “مونولوجات” في كثير من المواقف، تكشف لقاء الداخل والخارج في شخصيته، وتعمق الجانب الوجداني والأثر العاطفي الداخلي للشخصية، وهو ما يتمم بناء الرواية ويعمق أبعادها النفسية والداخلية بمقتبسات “حقيقية” غير مخترعة، ولكن المخترع هو المواقف الروائية التي تندرج فيها في صورة توظيف راقية لنصوص تنتمي إلى الشخصية نفسها.

ويمكن أن نقرأ هذه الرواية بوصفها سردية فكرية تاريخية تقدم شخصية ترتبط بثقافة المقاومة، وتعززها حتى بعد سنين طويلة من رحيلها، ذلك أن القيم والمبادئ الوطنية لا تموت، وأصحابها يستحقون الحياة في الكلمات؛ أي من خلال الأعمال الأدبية التي تتبع مصائرهم وتترسم خطاهم وتتمثل رحلة تضحيتهم. وقد بذل المؤلف جهدا موفورا في جمع مادتها المشتتة، وقد اعتمد الروائي سليم عبادو -وفق ما صرح لنا به- “على شهادات أصدقاء الشهيد بودية من اليساريين الذين ما زالوا على قيد الحياة وكذلك على بعض الكتب التي أصدرها أعضاء سابقون في جهاز الموساد، واقتبستُ من النصوص التي كتبها الشهيد بالفرنسية من شِعر وقصة ومسرح ومقالات صحفية بعد أن ترجمتُها إلى اللغة العربية”.

رواية درامية تعتمد على الحوار

ويبرز من بين الجماليات المنتقاة اعتماد الرواية على عنصر الحوار وتمثيل أقوال الشخصيات وتبادل الكلام بينها، بما يذكرنا بالتجربة المسرحية لبطلها، فالمسرح يعلي من شأن الحوار نظرا لتكوينه الدرامي، فيعتمد على الحوار اعتمادا واسعا في سياق إبراز الفعل والحركة، وتمتين حبكة الصراع، وقد اختار الروائي هذا الأسلوب الحواري ليكون عماد الأساليب في روايته، وقد سألناه عن رأيه ولماذا وسع من الاعتماد على الحوار فقال: “كتبتُ هذه الرواية بطريقة السيناريو التي تعتمد على الحوار والحركة في تدافع الأحداث وحتى الشخصية أبنيها عن طريق ذلك، وهو خيار شخصي، أصبح خطّا يُميز كتاباتي، وهي الرواية الثانية التي كتبتُها بهذه الطريقة بعد رواية “عباس”، وذلك لأني لاحظتُ غياب ذلك تقريبا في الرواية العربية مما أبعدها عن التجسيد الدرامي لاحقا في المسرح والسينما، فأردتُ أن أسد هذه الثغرة ببعض الأعمال الأدبية”.

ويعزز صدور هذه الرواية اتجاه الرواية التاريخية الثورية ورواية المقاومة، خصوصا مع عودة ثقافة المقاومة إلى الصدارة مع طوفان الأقصى والجولة الأحدث من جولات الصراع مع العدو الصهيوني. ولا شك في أن التربية الثورية وثقافة المقاومة محتاجة إلى تكوين وإلى تهيئة قد يقع جزء منها باستلهام التجارب الثورية والفكرية لمن ضحوا بدمهم من الأجيال السابقة، من مثل بودية ورفاقه الشهداء. بودية يمكن أن يكون مثالا آخر لغيفارا عربي جزائري، لو أننا نعتني برموزنا ونعزز حضورها الدائم كرموز وأيقونات ثورية.



اقرأ على الموقع الرسمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى